نصّ الجواب:
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
فهناك مسألتان:
المسألة الأولى: صبغ الشّعر الأشيب.
فهو إمّا أن يكون بغير اللّون الأسود، أو يكون باللّون الأسود.
- أوّلا: فإذا كان بغير اللّون الأسود - وهو ما يُسمّى بالخِضاب - فهو جائز، بل مستحبّ.
وإنّما كرهه من كرهه لا لأنّه من تغيير خلق الله، وإنّما كرهوه لما رواه أبو داود وغيره عن عبدِ اللهِ بنِ عمْرِو رضي الله عنه قال: قال رسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم:
(( لَا تَنْتِفُوا الشَّيْبَ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَشِيبُ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ))، وفي رواية: (( إِلَّا كُتِبَ لَهُ بِهَا حَسَنَةٌ، وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ )).
ولكن لا دلالة في هذا الحديث على ما ذكروه رحمهم الله، وذلك من وجوه أربعة:
الأوّل: أنّ هذه الأحاديث مفادها بيان فضل الشَّيب، ولا يدلّ على أنّه لا أفضل منه، ولو قالوا إنّه يدلّ على تحريم نزع الشّيب أو كراهته لكان أحسن.
الثّاني: صبغ الشّيب ليس فيه نزع له، لأنّه يصدق على من صبغ شيبه أن يقال إنّه أشيب، فالصّبغ أمارة على الشّيب، ويبقى نورا له.
الثّالث: قد أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلم بتغيير الشّيب بشرط اجتناب السّواد؛ روى البخاري ومسلم عن أبي هريرَةَ رضي الله عنه قال: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلم قال: (( إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ ))، وفي رواية أحمد: (( غَيِّرُوا الشَّيْبَ وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ وَلَا بِالنَّصَارَى )).
الرّابع: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم خضب شيبه، روى البخاري ومسلم عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضي الله عنه: ".. وَأَمَّا الصُّفْرَةُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلم يَصْبُغُ بِهَا، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَصْبُغَ بِهَا ".
وروى البخاري عنْ عثمانَ بنِ عبدِ اللهِ بنِ مَوْهَبٍ قال: دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها فَأَخْرَجَتْ إِلَيْنَا شَعَرًا مِنْ شَعَرِ النّبِيِّ صلّى الله عليه وسلم مَخْضُوبًا.
وفي رواية: ( أَرَتْهُ شَعَرَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلم أَحْمَرَ ). زاد ابن ماجه وأحمد:" بِالحِنَّاءِ وَالكَتَمِ ".
[والكَتَم: نبات فيه حمرة ينبت في الصّخور، يخلط بالحنّاء ويخضب به الشّعر، كما في "لسان العرب"، و"النّهاية" (4/150)].
فدلّ ما مضى أنّ الخضاب بالحمرة والصّفرة مستحبّ، لا فرق بين الرّجال والنّساء، ولا فرق بين أن يكون موافقا للّون الأصلّي أو لا، لعموم النّصوص.
ولذلك كان مذهب الجمهور من الأئمّة الأربعة على تفضيل الخضاب، بل رُوِي عن الإمام أحمد القول بفرضيّة الخضاب ولو مرّة. [انظر: "المجموع" (1/270)، و"شرح مسلم"، و"الآثار" لمحمّد بن الحسن (ص 198)، و"الفروع" (1/131)، و"المغني" (1/91)، و"الفتاوى الهنديّة" (5/359)].
- ثانيا: إن كان بالسّواد:
الخضاب بالسّواد يختلف عن غيره، فالّذين منعوه اختلفوا على قولين:
أ) منهم من كرّهه كالإمام مالك وعامّة أصحاب الشّافعيّ، وأحمد وأصحابه رحمهم الله.
["المجموع"(1/294)، و"المغني"(1/92)، و"المنتقى" (523)، و"عمدة القاري" (18/81)، و"المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" لأبي يعلى (ص32)].
واستدلّوا بما رواه مسلم وأحمد وابن ماجه عن جَابِرٍ رضي الله عنه قالَ: جِيءَ بِأَبِي قُحَافَةَ يَوْمَ الْفَتْحِ، إِلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم وَكَأَنَّ رَأْسَهُ ثَغَامَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( اذْهَبُوا بِهِ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ فَلْتُغَيِّرْهُ وَجَنِّبُوهُ السَّوَادَ )).
والّذي منعهم من القول بالتّحريم أنّ بعض الصّحابة خضب بالسّواد.
ث) ومنهم من قال بالتّحريم، وهو الصّواب إن شاء الله. وهو قول بعض الشّافعيّة كالماوردي والنّووي وبعض الحنابلة.
واستدلّوا بحديثين:
الأوّل: حديث جابر رضي الله عنه السّابق في الأمر بتغيير شيب أبي قحافة وتجنيبه السّواد، والأصل في النّهي التّحريم، والتّعبير بالاجتناب أبلغ.
الثّاني: حديث أبي داود عنْ ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(( يَكُونُ قَوْمٌ يَخْضِبُونَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ بِالسَّوَادِ كَحَوَاصِلِ الْحَمَامِ، لَا يَرِيحُونَ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ )).
قال صاحب " عون المعبود " رحمه الله:
" ( يَخْضِبُونَ ): - بكسر الضّاد المعجمة - أي: يغيّرون الشّعر الأبيض من الشّيب الواقع في الرّأس واللّحية، ( بِالسَّوَادِ ): أي باللّون الأسود، ( كَحَوَاصِلِ الحَمَامِ ): أي كصدورها، فإنّها سود غالبا، ( لَا يَرِيحُونَ ): أي لا يشمّون ولا يجدون (رَائِحَةَ الجَنَّةِ): يعني وريحها توجد من مسيرة خمس مائة عام كما في حديث، فالمراد به التّهديد، أو محمول على المستحلّ... "اهـ.
وهذا وعيد شديد لا يمكن أن يدلّ على مجرّد الكراهة.
المسألة الثّانية: هل يجوز أن تصبغه بهذا قبل ظهور الشّيب ؟
يدلّ على جوازه أمران:
الأوّل: الأصل الإباحة، ومن منع هو المطالب بالدّليل.
الثّاني: أنّه إذا جاز تغيير الشّيب الّذي ورد في فضله ما ورد، فكيف من غير شيب ؟ فلا شكّ أنّه يجوز من باب أولى.
والله أعلم.